سورة النساء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَءاتُواْ النساء} أي اللاتي أُمر بنكاحهن {صدقاتهن} جمعُ صَدُقة كسمُرة وهي المَهرُ وقرئ بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمعُ صُدْقة كغرفة، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة {نِحْلَةً} قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: فريضةً من الله تعالى لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ، فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى، وقال الزجاجُ: تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانةً وشِرْعيةً، وقال الكلبي: نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل: عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً، والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ، وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ، كأنه قيل: وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم، أو على الحالية من ضمير {أَتَوْا} أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ، فالخطابُ للأزواج وقيل: للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون: هنيئاً لك النافجةُ، لِمَن يولدُ له بنتٌ، يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ} الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤبةَ أنه حين قيل له في قوله:
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق *** كأنه في الجِلْد تَوليعُ البَهَقْ
إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول: كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول: كأنهما، قال: لكني أردتُ كأن ذلك. أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل: وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} حيث عَطفَ أكنْ على ما دل عليه المذكورُ ووقع موقعَه، كأنه قيل: إن أخرتني أصَّدقْ وأكنْ، واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ، ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيء أي كائنٍ من الصَّداق، وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ {نَفْساً} تمييزٌ والتوحيدُ لما أن المقصودَ بيانُ الجنسِ أي إن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لهن، عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى ما عليه النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة {فَكُلُوهُ} أي فخذوا ذلك الشيءَ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً، وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية {هَنِيئاً مَّرِيئاً} صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه، وقيل: الهنيءُ الذي يلَذُّه الآكِلُ والمريءُ ما يُحمد عاقبتُه، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المريءُ وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه، ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوبِ أن كُلوه وهو هنيءٌ مريءٌ وقد يوقف على كلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين، كأنه قيل: هنْأً ومَرْأً، وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالةِ التبعة.
روي أن ناساً كانوا يتأثمون أن يَقْبل أحدُهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت.


{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} رجوعٌ إلى بيان بقيةِ الأحكامِ المتعلقةِ بأموال اليتامى، وتفصيلُ ما أُجمل فيما سبق من شرط إيتائِها ووقتِه وكيفيتِه إثرَ بيانِ بعضِ الأحكامِ المتعلقةِ بأنفسهن، أعني نكاحَهن وبيانِ بعضِ الحقوقِ المتعلقةِ بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفسُ ومن حيث المالُ استطراداً، والخطابُ للأولياء، نُهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالَهم مخافةَ أن يضيِّعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظراً إلى كونها تحتَ ولايتِهم كما قيل فإنه غيرُ مصحِّحٍ لاتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء، فكأن أموالَهم عينُ أموالِهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيِّ والنَّسَبي مبالغةً في حملهم على المحافظة عليها كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا يقتُلْ بعضُكم بعضاً حيث عبّر عن بني نوعِهم بأنفسهم مبالغةً في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلَهم قتلُ أنفسِهم، وقد أيد ذلك حيث عبّر عن جعلها مناطاً لمعاشِ الأولياء فقيل: {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف الأولِ، فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم، وقيل: إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج، وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى، وأنت خبيرٌ بأن ذلك بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموالِ الأولياءِ بل هي متحققةٌ بين أموالِهم وأموالِ الأجانبِ، فإذن لا وجهَ لاعتبارها أصلاً وقرئ اللاتي واللواتي وقرئ {قَيْماً} بمعنى قياماً كما جاء عَوْذاً بمعنى عِياذاً وقرئ {قِواماً} بكسر القاف وهو ما يقام به الشيءُ، أو مصدرُ قاوم وقرئ بفتحها {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} أي واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتِهم بأن تتّجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتُهم من الأرباح لا من صُلْب المالِ، وقيل: الخطابُ لكل أحدٍ كائناً مَنْ كان، والمرادُ نهيُه عن أن يفوِّض أمرَ مالِه إلى من لا رُشدَ له من نسائه وأولادِه ووكلائِه وغير ذلك، ولا يخفى أن ذلك مُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي كلاماً ليناً تطيب به نفوسُهم، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج: عِدوْهم عِدةً جميلةً بأن تقولوا إذا صلَحتم ورشَدتم سلَّمْنا إليكم أموالَكم، وكلُّ ما سكَنت إليه النفسُ لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروفٌ وما أنكَرَتْه لقُبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر.


{وابتلوا اليتامى} شروعٌ في تعيين وقتِ تسليمِ أموالِ اليتامى إليهم وبيانِ شرطِه بعد الأمرِ بإيتائها على الإطلاق والنهيِ عنه عند كونِ أصحابِها سفهاءَ، أي واختبروا من ليس منهم بيِّن السَّفَهِ قبل البلوغِ بتتبُّع أحوالِهم في صلاح الدينِ والاهتداءِ إلى ضبط المالِ وحسنِ التصرفِ فيه، وجرِّبوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارةِ فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعاً وشراءً وإن كانوا ممن له ضِياعٌ وأهلٌ وخدَمٌ فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدِهم وخدمِهم وأُجَرائِهم وسائرِ مصارفِهم حتى تتبين لكم كيفيةُ أحوالِهم {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} بأن يحتلموا لأنهم يصلُحون حينئذ للنكاح {وابتلوا اليتامى} أي شاهدتم وتبينتم وقرئ {أحَسْتم} بمعنى أحسستم كما في قول من قال:
خلا أن العتاقَ من المطايا *** أحَسْنَ به وهنّ إليه شوُسُ
{مّنْهُمْ رُشْداً} أي اهتداءً إلى وجوه التصرفاتِ من غير عجز وتبذيرٍ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، أو للاعتداد بمبدئيته له. والتنوينُ للدِلالة على كفاية رُشدٍ في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمهما {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} من غير تأخيرٍ عن حد البلوغِ، وفي إيثار الدفعِ على الإيتاء الواردِ في أول الأمرِ إيذانٌ بتفاوتهما بحسب المعنى كما أشير إليه فيما سلف، ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجملُ كالتي في قوله:
فما زالت القتلى تمُجُّ دماءَها *** بدِجلةَ حتى ماءُ دِجلةَ أشكلُ
وما بعدها جملةٌ شرطيةٌ جُعلت غايةً للابتلاء، وفعلُ الشرطِ {بَلَغُواْ} وجوابُه الشرطيةُ الثانيةُ كأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دفعَ أموالِهم إليهم بشرط إيناسِ الرُشدِ منهم، وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن من بلغ غيرَ رشيدٍ إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه مالُه أبداً وبه أخذ أبو يوسفَ ومحمدٌ، وقال أبو حنيفة: ينتظر إلى خمس وعشرين سنةً لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنةً فإذا زادت عليها سبعُ سنين وهي مدةٌ معتبرةٌ في تغير أحوالِ الإنسانِ لما قاله عليه الصلاة والسلام: «مروهم بالصلاة لسبع» دفع إليه مالَه أُونِسَ منه أو لم يُؤْنَس {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كِبرَهم إو لإسرافكم ومبادرتِكم كِبرَهم تفرِّطون في إنفاقها وتقولون: نُنفق كما نشتهي قبل أن يكبَرَ اليتامى فينتزعوها من أيدينا، والجملة تأكيدٌ للأمر بالدفع وتقريرٌ لها وتمهيدٌ لما بعدها من قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الخ، أي من كان من الأولياء والأوصياءِ غنياً فليتنزَّهْ عن أكلها وليقنَعْ بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزقِ إشفاقاً على اليتيم وإبقاءً على ماله {وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياءِ {فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدْر حاجتِه الضروريةِ وأُجرةِ سعيِه وخِدمتِه، وفي لفظ الاستعفافِ والأكلِ بالمعروف ما يدل على أن للوصيّ حقاً لقيامه عليها.
عن النبي عليه الصلاة والسلام أن رجلاً قال له: إن في حِجري يتيماً أفآكلُ من ماله؟ قال: «بالمعروف غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالَك بماله» وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن وليَّ يتيمٍ قال له: أفأشرب من لبن إبلِه؟ قال: «إن كنت تبغي ضالّتَها وتلوطُ حوضَها وتهنأ جَرْباها وتسقيها يوم ورودِها فاشرَبْ غير مُضِرٍ بنسل ولا ناهكٍ في الحلب» وعن محمد بن كعب يتقرَّمُ كما تتقرّم البهيمة ويُنزِل نفسَه منزلةَ الأجيرِ فيما لا بد منه. وعن الشعبي: يأكلُ من ماله بقدر ما يُعين فيه. وعنه: كالميتة يتناول عند الضرورة. وعن مجاهد: يستسلف فإذا أيسرَ أدى. وعن سعيد بن جبير: إن شاء شرِب فضلَ اللبن وركِبَ الظهرَ ولبس ما يستُره من الثياب وأخَذَ القوتَ ولا يجاوزُه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل. وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلةَ وليَّ اليتيمِ إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وإذا أيسرتُ قضيت. واستعفَّ أبلغُ من عفّ كأنه يطلب زيادةَ العفة {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} بعد ما راعيتم الشرائطَ المذكورةَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول الصريحِ للاهتمام به {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم تَسَلَّموها وقبضوها وبرِئَتْ عنها ذممُكم لما أن ذلك أبعدُ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخَلُ في الأمانة وبراءةِ الساحةِ وإن لم يكن ذلك واجباً عند أصحابنا، فإن الوصيَّ مُصدِّقٌ في الدفع مع اليمين خلافاً لمالكٍ والشافعيِّ رحمهما الله {وكفى بالله حَسِيباً} أي محاسباً فلا تُخالفوا ما أمركم به ولا تُجاوزوا ما حَدَّ لكم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8